"المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضُه بعضاً"..
إن روح العمل الجماعي لهي سِمَة أساسية من السمات التي غرسها الرسول صلى الله عليه وسلم في قلوب وعقول صحابته، وهي لمحة مضيئة يراها المتتبع لسيرة خير البشر وكأنها تؤكد أن تقدّم الأمم، أو تحويل الأفكار العظيمة إلى أفعال أعظم لا يمكن أن يتمّ عن طريق رجل واحد أبداً.
قد تكون البداية بفكرة بسيطة تطرأ في ذهن شخص ما، وغالباً ما يتحمل هذا الشخص عبء نشر هذه الفكرة، وبذل المحاولات الأولى لتنفيذها؛ لكنه لن يستطيع وحده أبداً تحويل هذه الفكرة إلى واقع ملموس معترف به.
من المشوار النبوي
وهذا ما عرفه القائد الأعظم؛ فكان أول عمل قام به الرسول صلى الله عليه وسلم حينما هاجر إلى المدينة، هو الإخاء بين المهاجرين والأنصار للتأليف بين قلوبهم، وصهر العادات المختلفة بين مجتمع مكة ومجتمع المدينة، والتي قد تتعارض في بعض الأحيان في خطوة -أرى أنها- لم تأخذ حقها حتى اليوم من علماء العلاقات الإنسانية.
ثم كان بناء المسجد؛ فتعاون الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى هيّأوا المكان، وأحضروا الحجارة وجذوع النخيل التي تمّ بها بناء سقف المسجد؛ فكانوا يداً واحدة حتى تمّ لهم البناء وصلاة الجماعة.
لم يكن الاشتراك في بناء المسجد يمثّل كل العلاقة بين المسجد وروح الجماعة؛ ولكنه كان اللبِنَة الأولى في هذه العلاقة؛ فبعد الانتهاء منه أصبحت صلاة الفروض في جماعة هي أهم ما يميّز المسلمين من قرابة ألف وخمسمائة عام وحتى الآن.
وعلى مدار سنوات الدعوة كانت الأحاديث النبوية تؤكّد دائماً أهمية التعاون، وتُشعل جذوة روح الجماعة، وتقوّي من عزيمة الانسجام والتوحيد.. مثل حديث "يد الله مع الجماعة".
وراحت الدعوة إلى العمل الجماعي تأخذ أشكالاً متعددة، وتظهر في كل مجال على حدة؛ ففي "الذِّكر" أكّد لنا المصطفى صلى الله عليه وسلم أن اجتماع القوم على ذكر الله في مجلس، سبب كافٍ لأنْ تَحُفّهم الملائكة ويتغمدهم الله برحمته..
وفي "التجارة" دعانا إلى الشراكة، وأبلغنا بأن الله هو ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما الآخر.. وحتى عند تناول الطعام حبّبَنا صلى الله عليه وسلم في مشاركة الآخرين، وبشّرنا بأن طعام الاثنين يكفي الثلاثة، وطعام الثلاثة يكفي الأربعة؛ وكأنه يقول لنا ألا نبخل في دعوة شخص آخر لمأدبة الطعام؛ فهذا لن يكلّفنا شيئاً.
قلب رجل واحد
وفي الجهاد كان الأمر صارماً بتوحيد الصفوف وتنظيمها، والقتال على قلب رجل واحد، وكم نحتاج اليوم لاستعادة هذا التعبير "قلب رجل واحد".. إنه أمر لا ينجح فقط في الصراعات والمعارك الحربية؛ لكنه وصفة رائعة للنجاح في شتى جوانب الحياة.. فما رأيك في حكومة لدولة من الدول تفكّر وتتحرك وتقرر وهي مجتمعة على قلب رجل واحد؟ أو شركة يعمل أفرادها في جدّية ونشاط في إطار محدد وهدف واضح، الكل يؤمن به، وكأنهم على قلب رجل واحد؟
وما رأيك في منظومة إعلامية أو تعليمية أو عسكرية، يتعاون أفرادها على قلب رجل واحد؟ وما بالك لو اجتمعت أمة تعدادها مليار ونصف على قلب رجل واحد؟
ولم تكتفِ الوصايا النبوية بدعوتنا وترغيبنا في التعاون والعمل الجماعي؛ بل كان التحذير قاسياً من فعل العكس؛ فعرّفنا أن المسلم المنعزل عن الجماعة هو الأقرب للوقوع تحت سيطرة الشيطان.. وأخذنا مثالاً على ذلك بالذئب الذي يأكل من الغنم القاصية، المبتعدة عن القطيع؛ فتصبح فريسة سهلة للذئاب.. وغلّظ الدين عقوبة المفارق للجماعة أو الخارج عنها.
إن في الاتحاد قوة
إن كتب التاريخ على اختلاف الأقلام التي كتبتها، ونصائح أهل الحكمة على تعدد مذاهبهم، وتجارب السابقين على تنوّع أشكالها، ودعوات المعاصرين برغم تعارضها؛ قليلاً ما تجتمع على شيء.. ولكن هذه الكتب وتلك النصائح والتجارب والدعوات اجتمعت على عبارة شهيرة تقول "إن في الاتحاد قوة"، وقد قيل في الحكمة المأثورة "المرء قليل بنفسه كثير بإخوانه".
أفما آن الأوان أن نسترجع روح العمل الجماعي التي فقدنا منها الكثير، وبِتنا في درجة متأخرة في هذا المضمار وسط الأمم والشعوب التي تُجاوِرُنا في هذا العالم؟!
وسوف أدلّل على قولي السابق بأننا فقدنا من هذه الروح الكثير بمثلين من واقع عملي: المثل الأول يتعلق باهتمامات في الكتابة الإدارية والكيفية السليمة لبناء الشركات والمشاريع الخاصة، ومن خلال متابعات لمثل هذه الشركات أستطيع أن أؤكد أن ما لا يقل عن نصف المشاريع الغربية -الصغيرة والكبيرة على حد سواء- هي عبارة عن شركة يمتلكها شخصان أو أكثر، ومن أبرز الأمثلة على ذلك "جوجل" و"مايكروسوفت" في بدايتها.
هروبنا من التعاون
أما نحن؛ فمع الأسف الشديد، لا نحبّذ التعاون أبداً في الجوانب المالية، وكثيراً ما نؤكّد أننا مثل الفريك لا نحب الشريك.. والعجيب أننا إذا تأملنا في كلمة "شركة" باللغة العربية، نجد أن من الواضح اشتقاقها من الشراكة وتأليف الكتب وبناء الشركات.
والمثال الثاني الذي يؤكد تراجعنا في ميدان التعاون المثمر معاً إلى حد يثير الرثاء، هو تأليف الكتب..!
وبحكم عملي في مجال الكتابة وتأليف الكتب، أطّلع على كل ما هو جديد من الإصدارات العربية والغربية، وبالطبع لن أذيع سراً إذا قلت إن عدد الكتب التي يشترك في تأليفها أكثر من شخص في البيئات غير العربية هو عدد يثير الإعجاب والغيظ في آن واحد؛ الإعجاب بقدرتهم على التفاهم وصهر تجاربهم ومعلوماتهم في بوتقة واحدة، والغيظ من تكبّرنا على العمل الجماعي، وحتى عدم المحاولة لإخراج كتاب يحمل غلافه اسم أكثر من مؤلف ونحن أمة البنيان المرصوص.
ولعلنا نستغلّ هذه الأيام المباركة، ونتحرك لنشدّ بعضنا بعضاً، ربما نُفلح في أن نعود لتنفيذ الوصية النبوية التي بشّرَنا بها الرسول صلى الله عليه وسلم -أو لعله أَمَرنا بها- ونصبح كالبنيان المرصوص؛ فهيا أيها الصديق مُدّ يدَ العون لمن هو إلى جوارك، وإن لم تنجح في ذلك فعلى الأقل لا ترفض يَداً ممدودة لك تدعوك للتعاون.
:::منقول:::